في آخر تصريح أدلى به حول رؤيته عن الدولة الفلسطينية التي وصفها بأنها تأتي على رأس أولوياته ، قال الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ، إنه يأمل أن لا تنتهي ولايته في نهاية العام 2008 ، إلا وقد تم استصدار تعريف لهذه الدولة ، وتحديد لمعالمها ، وإنه سيعمل بكل قوة للتوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين .
وحقيقة الأمر إن ما صرح به الرئيس الأميركي ، لم يكن مفاجئا للشعب الفلسطيني ، وليس فيه جديد لا من حيث الشكل ولا المضمون ، ولا حتى استخدامه مصطلحي تعريف الدولة ، وتحديد معالمها . لقد بات الفلسطينيون صغيرهم قبل كبيرهم يدركون أن هناك عدم جدية أو مصداقية في طرح الموضوع ، فلطالما تحدث عنه الأميركيون في كل مناسبة ، وعلى كل منبر سياسي . وصدق المثل القائل نسمع قرقعة ولا نرى طحنا .لا أحد ينكر أن الرئيس الأميركي الحالي هو أول من " بشر " الفلسطينيين بالدولة ، ووعدهم بها غداة أحداث الحادي عشر من إيلول / سبتمبر 2001 . إلا أن هذه الدولة منذ ذلك التاريخ حتى اللحظة الراهنة ما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي ، رغم مرور سبع سنين عجاف عليها ، ظلت خلالها حبيسة في قمقمها الذي أعد لها مسبقا .والشعب الفلسطيني من الذكاء بحيث أدرك في حينه أن هناك " دوافع " تقف وراء إجبار الرئيس الأميركي على طرح مثل هذه الرؤية متمثلة في كسب ود العرب والمسلمين في السعي لإنشاء تحالف لمحاربة ما تسميه أميركا إرهابا دوليا بدءا بأفغانستان . ولم يكن يخطر في بال أحد أن فلسطين أرضا وشعبا ستكون هي النموذج المصغر المحتذى لهذه الحرب من قبل إسرائيل . أو أنها بعبارة أخرى المرحلة الثانية لها . في هذه السنين السبع العجاف ، ومثالا لا حصرا ، رسمت على شرف هذه الدولة الوهمية خارطة الطريق ، وأنشئت اللجنة الرباعية الدولية ، وعقد العديد من المؤتمرات واللقاءات الدولية " أنابوليس " والإقليمية ، وتمت الزيارات المكوكية والرسمية ، والتأمت الإجتماعات الثنائية والثلاثية ، وأدلي بالتصريحات . إلا أن الأغرب من هذا كله أن هذه الدولة لم تحظ حتى الآن بتعريف لها ، ولا بتحديد لمعالمها . وانطلاقا من هذه الحال التي ما زالت تقف عندها رؤية هذه الدولة ، فإن المنظور الأميركي لها ، إذا ما كتب لها أن تقوم ، فإنه دون أدنى شك لا ينطلق من حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967 . وهي دون أدنى شك أيضا تستثني حق العودة ، وتخرج القدس من معادلتها . وبمعنى آخر وأدق ستكون منقوصة السيادة برا وبحرا وجوا . وعلى الأرجح فإنها تجسد فكرة اللجوء إلى ما يسمى الدولة المؤقتة التي هي أشبه ما تكون بالكنتونات المقطعة الأوصال التي يرفضها الشعب الفلسطيني قلبا وقالبا . إن ما يدور في فكر الرئيس الأميركي يأتي مطابقا وترجمة فعلية لما يحدث على أرض الواقع الفلسطيني . إن المشروعات الإستيطانية لم تتوقف لحظة واحدة ، سواء قبل أنابوليس ، أو في أثنائها ، ولا حتى في أي من اللحظات الراهنة . والسؤال العريض المتعدد الأبعاد الذي يفرض نفسه هنا : وماذا تبقى من الأرض الفلسطينية لإقامة أي شكل من أشكال الدول عليها ، وقد صبغت بالمستوطنات بطولها وعرضها ؟ . وهل هي دولة للمستوطنين ؟ . وكيف تكون دولة حقيقية ، وهي مقطعة الأوصال ، محاصرة من كل جهاتها بمد إستيطاني ، ومئات الحواجز العسكرية ، والسواتر الترابية ، وكافة أشكال الإغلاقات ؟ . وهذا غيض من فيض . إن الشعب الفلسطيني يعتبر أن إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة على أراضيه هو بمثابة تصحيح لخطأ تاريخي ، وخطيئة إنسانية وأخلاقية ارتكبت بحقهم يوم اقتلعوا من وطنهم التاريخي ، وشتتوا في المنافي المختلفة ، فتقطعت أوصالهم السياسية والإجتماعية والثقافية . وأما من بقي منهم على أرض الوطن ، فقد سامهم آخر احتلال بقي على وجه الأرض كافة أشكال الخسف والعسف والظلم والقمع والقهر والعذاب .والشعب الفلسطيني أيضا ينظر إلى الدولة على أنها حق لا منة من أحد ، ويأبى أن تدخل في مزادات سياسات الآخرين ، أو أن تكون مجرد كيان ما يحمل مسمى دولة أو مصطلحه . فالشعب الفلسطيني الذي كانت مأساته جغرافية وديموغرافية يدرك أن هدفه لا ينحصر في مجرد مسمى جغرافي أيا كان . إن الدولة من منظوره ذات ثلاثة أبعاد لا تنفصل عن بعضها البعض ويكمل الواحد منها الآخر . البعد الأول يخص الدولة والعناصر المفترض أن تكونها . وهي في علم الجغرافيا السياسية الأرض ما فوقها وما تحتها وما عليها ، والسماء والماء والهواء والحدود والمعابر بكافة أشكالها ، مضافا إلى كل ذلك العاصمة وهي قدس التاريخ والعقيدة . وأما البعد الثاني فيخص السيادة المطلقة من قبل أصحابها عليها .وإذا كان هذان البعدان هما الأساس في قيام أية دولة على وجه البسيطة ، فثمة بعد ثالث هو جزء لا يتجزء من البعدين المذكورين . فهناك منظومة من الإستحقاقات والحقوق الشرعية تخص فلسطينيي الشتات . وإذا كان خيار السلام العربي ، قد قبل بتقاسم الأرض مع الإسرائيليين في فلسطين ، فلا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن تتقاسم الدول العربية المضيفة للفلسطينيين المهجرين من وطنهم أراضيها معهم . فبلاد الفلسطينيين أولى بهم ، وهي أحق .إن الحديث عن إنهاء فوري لاحتلال الأراضي الفلسطينية ، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني جراء ممارساته التعسفية من خلال الإجتياحات المتكررة لمدنه وقراه ومخيماته ، وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية ، مضافا إلى كل ذلك ضمان دولي بعدم تكرار هذه السيناريوهات الإحتلالية بكل مشاهدها الملونة بلون الدم والدمار والخراب ، إن الحديث عن هذا وذاك ، ينبغي وحد ان يكون فصل المقدمة من كتاب الدولة الفلسطينية حتى تكون الفصول التالية مبنية على أسس عقلانية ونوايا طيبة جادة بعيدة كل البعد عن أجواء الإلهاء والمماطلة والخداع واللف والدوران .على الصعيد الوطني والقومي معا ، فإن الفلسطينيين ومعهم أشقاؤهم العرب ، يعون دروس التاريخ جيدا ، ولا يزالون يتذكرون الوعود المكالة لهم من قبل بريطانيا في مطلع القرن العشرين المنصرم ، تشجيعا لهم لمحاربة الدولة العثمانية . والنتيجة كانت اتفاقية سايكس - بيكو التي أسفرت عن تقسيم بلاد الشام ثم استعمارها ، إضافة إلى وعد بلفور الذي أفرز القضية الفلسطينية بكل أبعادها المأساوية . وهم أيضا يتذكرون وعد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن للجنرال شارون رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه بإخراج حق العودة ، واستثناء الكتل الإستيطانية الست الكبرى في الضفة ، والقدس من أي تسوية مع الفلسطينيين .كلمة أخيرة نقولها للرئيس الأميركي قبل مغادرته البيت الأبيض . إن تعريف الدولة الفلسطينية ، إذا ما خلصت النوايا ، بسيط للغاية . إنها دولة كبقية الدول السيادية في العالم ، لها حدود دولية معترف بها . وهي مستقلة ذات سيادة . لها علمها وعاصمتها " القدس " وشعبها ولها أرضها وسماؤها وهواؤها وماؤها . تبسط سيادتها على كل معابرها البرية والبحرية والجوية .وإذا كان الرئيس الأميركي بعد سبع سنين من رؤيته ، لم يتوصل إلى تصور تعريف لهذه الدولة ، فلكونه وإدارته منحازين قلبا وقالبا إلى إسرائيل . ولكونهما لا يريان إلا ما تراه إسرائيل . ولكونهما غير جادين في أي طرح يخص دولة الفلسطينيين . ولكونهما يراهنان على إضاعة الوقت والتسويف والمماطلة .أما الشعب الفلسطيني ، وهو يستعد لإحياء الذكرى السنوية الستين لنكبته التاريخية التي حلت بأرضه وشعبه ، ما يزال متمسكا بحقه المشروع ، وثوابته الوطنية ، لا يفرط بأي منها رغم كل التحديات والصعاب والمحن . وهو قادر على الصمود حتى تحين ساعة خلاصه وتحرره . وإن غدا لناظره قريب .