نحن في عصر تزينت فيه الشهوات، وتنوعت فيه الشبهات، وتزايدت المغريات، وكثرت الملهيات، حتى كادت معها أن تعمي القلوب، وتموت الأرواح، والمسلم اليوم يبحث عن لذة الروح، وخشوع القلب، ودموع العين، فلا يجد من ذلك إلا أقل القليل، فأين قوت القلوب وغذاء الأرواح ؟ وأين لذة العبادة، وحلاوة الطاعة ؟، وأين ترطيب الألسنة بالأذكار ؟ وأين الاستغفار بالأسحار ؟ ومن ثم أين صفاء النفوس والسرائر ؟ وأين جلاء القلوب والبصائر ؟ ومن بعد أين حسن الأقوال وصلاح الأعمال وصدق الأحوال ؟.
إنه لا بد من استشعار الخطر، ومعرفة الأثر، فإن داء القلوب أشد فتكاً وأعظم ضرراً، وإن هزال الأرواح وكدر النفوس بلية البلايا ورزية الرزايا، والعجيب أن هذا الخطر الماحق لا يفطن له كثيرون، ولا يشعرون به، إنهم رغم أدواء قلوبهم وعلل نفوسهم يمضون في حياتهم كأن شيئاً لم يكن، وكأنهم لم يفقدوا شيئاً يتحسرون عليه، مع أنه في أعظم خطر وأكبر خسارة في أجلّ أمر وهو صلتهم بالله، وصدق من قال:" من فقد الله فماذا وجد؟ ومن وجد الله فماذا فقد ؟" ولله در ابن القيم عن هذه الحال فقال : " ومن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض" [ الفوائد ص 61].
حقاً إنه لأمر عجب بل هو أعجب العجاب، كيف يسعد من قلبه قاسٍ خرب ؟، " وخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر " [الفوائد ص129]، "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن : عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك" [الفوائد ص 195]، الله أكبر كم للقلوب في تلك المواطن من موات وغفلة، فكيف إذن يعيش ويحيا من لا قلب له ؟.
كلما عرض عارض صحي التمس الناس له الشفاء، وبحثوا عن الدواء، والتزموا الحمية، وصبروا على العلاج، ومع ذلك فإنهم عن داء قلوبهم وسلامتها غافلون، " والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة " [الفوائد ص129]، فأين المؤمنون من علاج أدواء قلوبهم وجلائها وزينتها وحسن كسائها ؟
إن الحكام العادلين والعلماء العاملين والدعاة المصلحين والقادة الفاتحين كانوا أهل قلوب وأرواح، من المحراب انطلقوا، وبالسجود والذل لله ارتفعوا، وبزاد الإيمان والتقى انتفعوا، وبصدق التوكل واليقين انتصروا، وبكمال الإخلاص والتجرد اشتهروا .
وكلهم كانوا :
إذا سجى الليل قاموه وأعينهم ****من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهمُ لعب **** عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
وصدق الله القائل :{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } .
معشر الدعاة يا من تتصدرون المجالس، وترتقون المنابر، وتتصدون للوعظ والإرشاد، وتقصدون هداية العباد، ألا ترون أن هناك فرقاً كبيراً ، وبوناً عظيماً بين هذه الصفة صفة الصفوة والحقيقة اللازمة لها، فأنت - أيها الداعية - ينبغي أن تكون أحيا الناس قلباً، وأصفاهم نفساً، وأخلصهم قصداً، وأسرعهم عَبْرة، وأكثرهم خشية، وأصدقهم توكلاً، فهل ذلك حقاً هو ما تتصف به ؟ ألا تعترف بأن الحال ليس كما ينبغي، وأن من الدعاة من ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، وعيونهم جامدة، أفلست بحاجة ماسة إلى مكاشفة صريحة، ومراجعة دائمة، وخذ هذا الوصف من سيد من سادات الدعاة والعلماء، الحسن البصري يقول في وصف الصفوة :" حسنت ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تبارك وتعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا أو كرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين لرضا الخالق، شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا أنفسهم لله حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم " [ رسائل مبكية 137، 138]، وأزيدك من كلامه مزيداً من الصفات حيث يقول :" قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل: فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ولكن خالطهم ذكر الله أمر عظيم "[رسائل مبكية ص60، 61].
أين أنتم معاشر الدعاة من هذه الصفات، وتلك المقامات? وكثيرون قد استكثروا من المباحات، وشغلوا بالأبناء والزوجات، وألفوا الكسل، وعافوا العمل، حتى ركنت لذلك نفوسهم، وقنعت به همومهم، وذلك نتيجة حتمية لمن ترك تزكية النفس بالطاعات، وطهارة القلب بالقربات، ومن المعلوم "إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورضها وسسها على المكروه الأحسن، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ كل صغيرة، علّمها التحليق تكره الإسفاف، عرّفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة"[ الرقائق ص 51].
وخذها أخيراً من عَلَمِ الدعوة المعاصرة حسن البنا يوصيك قائلاً:" لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام والخليون هجع، وقد سكن الليل كله وأرخى سدوله وغابت نجومه فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، فيطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك إلى من لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وآمالك وأمانيك، ووطنك وعشيرتك،ونفسك وإخوتك وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم